الحكم بعدم دستورية ثبات الأجرة للاماكن المخصصة لغرض السكنى
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - في أن المدعي أقام أمام محكمة الإسكندرية الابتدائية الدعوى رقم ١٩٨٦ لسنة ۱۹۸۸ مساكن، ضد المدعى عليهم الأربعة الأخيرين، طالبا الحكم بإعادة تقدير الأجرة، على سند من أن المدعى عليهم الثلاثة الأخيرين استأجر كل منهم وحدة سكنية في العقار المملوك له مقابل أجرة اتفاقية، وأن لجنة تحديد الأجرة المختصة خفضت - بناء على طلبهم - أجرة هذه المساكن على غير الأسس القانونية، ما شاب قرارها بالبطلان؛ ومن ثم أقام دعواه. كما أقام المدعى عليهما الرابع والخامس أمام المحكمة ذاتها الدعوى رقم ١٦٧٧ لسنة ۱۹۸۸ مساكن، ضد المدعي وآخر ، طلبا للحكم بتخفيض القيمة الإيجارية للوحدتين السكنيتين المؤجرتين لهما، على سند من أنهما استأجرا الشقتين محل النزاع بغرض السكني بالعقار المملوك للمدعي، وأن لجنة تحديد الأجرة أخطرتهما في ١٩٨٨/٥/٢٢ بتقديرها القيمة الإيجارية للشقتين، وإذ جاء تقديرها مجحفا بحقوقهما؛ فأقاما الدعوى المار بيانها، قررت المحكمة ضم الدعويين للارتباط وليصدر فيهما حكم واحد، وبجلسة ٢/٢٦/۱۹۹۷ ، حكمت المحكمة برفض الدعويين. طعن المدعي على الحكم أمام محكمة استئناف الإسكندرية بالاستئناف رقم ۸۰۱ لسنة ٥٣ قضائية، وحال نظره دفع المدعي بعدم دستورية المادتين (۱) و (٥) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ المار ذكره، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع، وصرحت له بإقامة الدعوى الدستورية فأقام الدعوى المعروضة.
ولا تسري على هذه الأماكن أحكام المادة (۱۳) عدا الفقرة الأخيرة منها والمادة (١٤) والفقرة الأولى من المادة (١٥) والفقرة الثانية من المادة (٦٨) من القانون رقم ٤٩ لسنة ۱۹۷۷ في شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
وحيث إن المحكمة الدستورية العليا سبق أن حسمت دستورية الفقرة الأولى من المادة (٥) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ ، بحكمها الصادر بجلسة ۲٠٠٦/٢/١٢ ، في الدعوى رقم ۸۹ لسنة ۱۸ قضائية دستورية"، الذي قضى بعدم قبول الطعن على الفقرتين الثانية والثالثة من هذه المادة، وبرفض الطعن على المادة (٤) والفقرة الأولى من المادة (٥) من القانون ذاته، وإذ نشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بالعدد 8 مكرر (أ) في أول مارس سنة ٢٠٠٦ ، وكان مقتضى نص المادة (١٩٥) من الدستور، والمادتين (٤٨) و (٤٩) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم ٤٨ لسنة ۱۹۷۹ ، أن تكون أحكام هذه المحكمة وقراراتها ملزمة للكافة وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة إليهم، باعتبارها قولا فصلا في المسائل المقضي فيها وهى حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيها أو إعادة طرحها عليها من جديد لمراجعتها؛ ومن ثم فإن الدعوى المعروضة - في هذا الشق منها - تغدو غير مقبولة، ولما كانت الفقرتان الثانية والثالثة من المادة (٥) السالف بيانها لا صلة لهما بمناعي المدعي في الدعوى المعروضة، فإنهما تغدوان - بهذه المثابة - خارجتين عن نطاق هذه الدعوى .
متى كان ما تقدم، وكانت رحى النزاع الموضوعي تدور حول طلب الخصوم فيه إعادة تقدير القيمة الإيجارية للوحدات السكنية المؤجرة للمدعى عليهم الثلاثة الأخيرين، الذين احتجوا في النزاع الموضوعي بما تضمنه نص الفقرة الأولى من المادة (1) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ المار ذكره بألا تزيد القيمة الإيجارية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكنى اعتبارا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون على 7% من قيمة الأرض والمباني، فيما تمسك المدعي بإعادة تقدير القيمة الإيجارية المحددة بمعرفة لجنة تحديد الأجرة المختصة، وكان النص المطعون فيه هو ما يحول دون إجابة المدعي لطلبه؛ ومن ثم يكون للفصل في دستورية هذا النص أثر مباشر وانعكاس أكيد على الطلبات في الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الموضوع فيها، وتبعا لذلك تتوافر للمدعي مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن بعدم دستوريته.
إذ كان ذلك، وكان المدعي يستهدف من دعواه المعروضة إبطال ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكني، وكان صدر المادة (۲) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ ، فيما نص عليه من أن تقدر قيمة الأرض بالنسبة إلى الأماكن المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة السابقة وفقا لثمن المثل عند الترخيص بالبناء، وتقدر قيمة المباني وفقا للتكلفة الفعلية وقت البناء، فإن حكم هذا النص متضامنا مع نص الفقرة الأولى من المادة (۱) من القانون ذاته يشكلان الأساس القانوني لتقدير أجرة المباني السكنية الخاضعة لأحكام هذا القانون، وكان مؤدى هذين النصين معا هو ثبات القيمة الإيجارية للوحدات السكنية الخاضعة لأحكام هذا القانون، مما يتعين معه مد نطاق الدعوى المعروضة إلى هذا النص أيضًا، ومن ثم يتحدد نطاقها فيما تضمنته الفقرة الأولى من كل من المادتين (۱) و (۲) من القانون رقم ١٣٦ لسنة ١٩٨١ في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، من ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكني اعتبارا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون، دون غيرها من أحكام أخرى تضمنها النصان السالفان.
وحيث إن الرقابة على دستورية القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلا - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم، وحمايته من الخروج على أحكامه؛ ذلك أن نصوص هذا الدستور تمثل دائما القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة.
وحيث إن الأصل في الشريعة الإسلامية - في مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تبديل فيها أن الأموال جميعها مردها إلى الله تعالى، أنشأها وبسطها، وإليه معادها ومرجعها، مستخلفًا فيها عباده الذين عهد إليهم بعمارة الأرض، وجعلهم مسئولين عما في أيديهم من الأموال لا يبددونها أو يستخدمونها إضرارًا، يقول تعالى: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، وليس ذلك إلا نهيا عن الولوغ بها في الباطل، وتكليفا لولي الأمر بأن يعمل على تنظيمها بما يحقق المقاصد الشرعية المتوخاة منها، وهي مقاصد ينافيها أن يكون إنفاق الأموال وإدارتها عبثًا أو إسرافًا أو عدوانًا، أو متخذا طرائق تناقض مصالح الجماعة أو تخل بحقوق للغير أولى بالاعتبار. وكان لولي الأمر - صونًا للملكية من تبديد عناصرها أن يعمل من خلال التنظيم التشريعي على ألا يكون نهبا لآخرين يلحقون بأصحابها ضررًا بغير حق أو يوسعون من الدائرة التي يمتد الضرر إليها، ليكون دفع الضرر قدر الإمكان لازمًا، فإذا تزاحم ضرران كان تحمل أهونهما واجبًا اتقاء الأعظمهما، وكلما كان الضرر بينا أو فاحشا كان رده متعينا، بعد أن جاوز الحدود التي يمكن أن يكون فيها مقبولا.
وحيث إن ما نص عليه الدستور في المادة الثامنة من قيام المجتمع على أساس من التضامن الاجتماعي، يعني وحدة الجماعة في بنيانها، وتداخل مصالحها لا تصادمها، وإمكان التوفيق بينها ومزاوجتها ببعض عند تزاحمها، واتصال أفرادها وترابطهم فيما بينهم، ليكون بعضهم لبعض ظهيرا، فلا يتفرقون بددا، أو يتناحرون طمعًا، أو يتنابذون بغيًا، وهم بذلك شركاء في مسئوليتهم قبلها، ولا يملكون التنصل منها أو التخلي عنها، وليس لفريق منهم أن يتقدم على غيره انتهازا، ولا أن ينال قدرًا من الحقوق يكون بها عدوانًا - أكثر علوا، وإنما تتضافر جهودهم وتتوافق توجهاتهم، لتكون لهم الفرص ذاتها التي تقيم لمجتمعاتهم بنيانها الحق، وتتهيأ معها تلك الحماية التي ينبغي أن يلوذ بها ضعفاؤهم، ليجدوا في كنفها الأمن والاستقرار .
وحيث إن الدستور إعلاء من جهته لدور الملكية الخاصة، وتوكيدا لإسهامها في صون الأمن الاجتماعي - كفل حمايتها لكل فرد - وطنيا كان أم أجنبيا - ولم يُجز المساس بها إلا على سبيل الاستثناء، وفي الحدود التي يقتضيها تنظيمها، باعتبارها عائدة في الأغلب الأعم من الأحوال - إلى جهد صاحبها؛ بذل من أجلها الوقت والعرق والمال، وحرص بالعمل المتواصل على إنمائها، وأحاطها بما قدره ضروريا لصونها، معبدا بها الطريق إلى التقدم كافلا للتنمية أهم أدواتها، محققا من خلالها إرادة الإقدام، هاجعًا إليها لتوفر ظروفًا أفضل لحرية الاختيار والتقرير، مطمئنا في كنفها إلى يومه وغده، مهيمنا عليها ليختص دون غيره بثمارها ومنتجاتها وملحقاتها.
وحيث إن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في موضوع تنظيم الحقوق لازمها أن يفاضل بين بدائل متعددة مرجحًا من بينها ما يراه أكفل بتحقيق المصالح المشروعة التي قصد إلى حمايتها، إلا أن الحدود التي يبلغها هذا التنظيم لا يجوز بحال أن ينفلت مداها إلى ما يُعد سلبًا للملكية من أصحابها، سواء من خلال العدوان عليها بما يفقدها قيمتها، أو اقتلاع المزايا التي تنتجها، أو تهميشها، أو تعطيل بعض جوانبها.
وحيث إن المشرع قد حرص في القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ على تنظيم العلاقة الإيجارية بين المؤجر والمستأجر تنظيما تشريعيا أمزا بنصوص راعت حسب ما أوردته المذكرة الإيضاحية للقانون، وتقرير اللجنة المشتركة من لجنة الإسكان والمرافق والتعمير، ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية - علاج القصور الذي كشف عنه التطبيق العملي للقانون رقم ٤٩ لسنة ۱۹۷۷، ومنه إعادة التوازن في العلاقة الإيجارية بين المؤجر والمستأجر بما استحدثته من قواعد في شأن تحديد الأجرة، مخالفا التنظيم القانوني المعمول به بالقانونين رقمي ٥٢ لسنة ١٩٦٩، و ٤٩ لسنة ۱۹۷۷.
إذ فضلاً عما جرت عليه قوانين الإيجار الاستثنائية من عدم خضوع الأراضي الفضاء وعقود الإيجار المفروشة لقواعد تحديد الأجرة استبعد أيضًا من هذه القواعد الإسكان الفاخر، والأماكن المستغلة لغير أغراض السكني المنشأة اعتبارا من تاريخ العمل بهذا القانون، قاصرا هذه القواعد على الأماكن المستغلة لأغراض السكنى جاعلا تحديد أجرتها معقودًا للمالك على ضوء أسس التكاليف المنصوص عليها بالفقرتين الأوليين من المادتين (۱) و (۲) من القانون ذاته، فإذا لم يوافق المستأجر على هذا التحديد يكون له أن يلجأ إلى لجنة تحديد الأجرة طعنا على هذا التقدير، بمراعاة المواعيد والإجراءات المنصوص عليها في المادتين (۲) و ٥) منه.
وحيث إن البين من استصفاء الأحكام الأمرة في القوانين الاستثنائية الإيجار الأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكنى التي لم يخرج عليها القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ السالف البيان انطواؤها على خصيصتين رئيسيتين؛ أولاهما : الامتداد القانوني لعقود إيجار هذه الأماكن، والأخرى التدخل التشريعي في تحديد أجرتها، وكلتاهما لا تستعصي على التنظيم التشريعي، ولا يُعدو حكمها مطلقا من كل قيد فالامتداد القانوني لعقود الإيجار المار ذكرها حدد نطاقا بفئات المستفيدين من حكمه دون سواهم، فلا يفيد منه غير المخاطبين به، أما تحديد أجرة هذه الأماكن فلئن انتظمه النصان اللذان تحدد بهما نطاق الدعوى المعروضة، وما يرتبط بهما من نصوص أخرى، فإن تحديد أجرة هذه المباني يتعين دوما أن يتساند إلى ضوابط موضوعية تتوخى تحقيق التوازن بين طرفي العلاقة الإيجارية، فلا يمتنع المشرع عن التدخل فيمكن المؤجر من فرض قيمة إيجارية سمتها الغلو والشطط استغلالاً لحاجة المستأجر في أن يأوي إلى مسكن يعتصم به وذووه، تلبية لحاجة توجبها الكرامة الإنسانية، أو يهدر عائد استثمار الأموال التي أنفقت في قيمة الأرض والمباني المقامة عليها بثبات أجرتها، بخشا لذلك العائد، فيحيله عدمًا، بل يكون بين الأمرين قوامًا.
وحيث إن المحكمة بعد أن انتهت إلى عدم دستورية النصين اللذين تحدد بهما نطاق هذه الدعوى، وتقديرا منها لحاجة المشرع إلى مدة زمنية كافية ليختار من بين البدائل المتاحة ما يتناسب مع الدراسات والبيانات الإحصائية التي يتطلبها تشريع ضوابط حاكمة لتحديد أجرة الأماكن المرخص بإقامتها لأغراض السكني الخاضعة لأحكام القانون رقم ١٣٦ لسنة ۱۹۸۱ السالف البيان، فإن المحكمة تعمل الرخصة المخولة لها بنص الفقرة الثالثة من المادة (٤٩) من قانونها الصادر بالقانون رقم ٤٨ لسنة ۱۹۷۹ المعدل بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم ١٦٨ لسنة ۱۹۹۸، وتحدد اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي الحالي المجلس النواب تاريخا لإعمال أثر هذا الحكم، وذلك دون إخلال باستفادة المدعي في الدعوى المعروضة منه.
يهمنا تفاعلك